يشهد الحوار الوطني في جمهورية مالي جهودا حثيثة ، منذ 31 كانون الأول/ديسمبر 2023، عندما أعرب رئيس الفترة الانتقالية في رسالته إلى الأمة عن دعوته لتنظيم حواراً بين الماليين لتمكينهم من المضي قدماً نحو السلام والمصالحة دون تدخل خارجي، من أجل معالجة التحديات التي تواجه البلاد، والتي تشمل من بين أمور أخرى:
- الأزمة الأمنية، حيث تُعاني البلاد من تمرد مسلح في الشمال منذ عام 2012.
- الإنقلابات العسكرية
-الأزمة الاقتصادية والفساد.
ونتيجة لهذه الدعوة، بدأ جدال واسع النطاق داخل الأوساط الاجتماعية والسياسية والدينية والفكرية في مالي، وكذلك في وسائل الإعلام الوطنية والدولية، حول الدوافع والأهداف الحقيقية للحوار الوطني. وأفضت الدعوة إلى نقاش حاد، كما هو مبين أدناه، حول القوى السياسية التي يحق لها المشاركة في الحوار الوطني والأخرى التي ينبغي استبعادها ومعايير الاختيار والتمييز فيما بينها، وما هي المحددات الأساسية الحاكمة للحوار الوطني، بالاضافة إلى طبيعة القضايا التي يجب أن يتناولها الحوار الوطني، وكيفية تمثيل الأحزاب السياسية في الحوار الوطني -علما بأنه تم تعليق النشاط السياسي لكافة الأحزاب قبيل بدء انعقاد جلسات الحوار - وغيرها من القضايا المنهجية والإجرائية. كذلك فقد أثير النقاش حول جدوى وأهمية مشاركة الجماعات المسلحة في ذلك الحوار؛ خاصة بعد إعلان الحكومة المالية إلغاء اتفاق السلام والمصالحة الموقع بينها وبين الحركات المتمردة في العام 2015 برعاية الجزائر.
وأمام هذه النقاشات المستمرة حول طبيعة الحوار الوطني ودوافع انعقاده فقد قامت اللجنة التوجيهية للحوار الوطني بتوضيح رؤية وأهداف الحوار الوطني والمحاور التي من المفترض أن يتم مناقشتها، وهي ما سيتم تناوله في السطور التالية.
أولاً، الرؤية : تتمثل رؤية قادة الحوار الوطني في الدعوة إلى التواصل الفعال بين كافة شرائح المجتمع والقوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية في مالي، وإتاحة الفرصة لسماع وجهات النظر المختلفة وتبادل الرؤى والمقترحات من أجل الوصول إلى مساحة مشتركة نحو دولة موحدة ومستقرة.
ثانياً، تتمثل أهداف الحوار الوطني في:
-تحقيق السلام والمصالحة بين جميع الشرائح الاجتماعية في مالي.
-إجراء إصلاحات اجتماعية وأمنية وسياسية واقتصادية شاملة.
-الحفاظ على وحدة وسلامة البلاد.
-احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان.
-تعزيز المشاركة الشعبية في صنع القرار.
ونتيجة لذلك، عُقدت أولى جلسات الحوار الوطني في مالي على مدار الأسبوعين الماضيين بمشاركة ممثلين عن مختلف قطاعات المجتمع المالي.
وفي يوم السبت الموافق 20 من شهر إبريل 2024 الجاري، بدأت فاعليات الحوار الوطني للماليين في الخارج من أجل السلام والمصالحة الوطنية، وبهذه المناسبة، عقدت الجلسة الأولى للحوار الوطني في سفارة جمهورية مالي بالقاهرة. واستمرت الجلسات حتى 22 أبريل، وفقا لأجندة العمل التي أعلنتها اللجنة التوجيهية للحوار الوطني في باماكو.
لطالما كان كلاً من الشباب والمرأة من العناصر الفاعلة في المجتمع المدني التي تأتي في طليعة الأحداث الكبرى في تاريخ مالي. لذلك هنا في جمهورية مصر العربية، تم احترام هذا التقليد المتمثل في تعبئة الشباب والمرأة للمشاركة في هذا الحوار الذي افتتح أولى جلساته بكلمة لسفير دولة مالي في القاهرة السيد/ أبو بكر جالو: رحب فيها بالحاضرين وشكرهم على استجابتهم لدعوة الرئيس الانتقالي العقيد/ هاشمي غيتا. عقب ذلك تم تقسيم الحاضرون على لجان عمل ممثلة في خمس لجان رئيسية (لجنة المصالحة والتماسك الاجتماعي، ولجنة الأمن والدفاع، ولجنة التنمية الاقتصادية والمستدامة، ولجنة السياسة والحكم الرشيد، ولجنة الجغرافيا السياسية والبيئة الدولية)، ولكل لجنة رئيس ونائب رئيس ومقرر، وتم خلالها مناقشة العديد من القضايا الهامة، وفقا للمحاور الاساسية التي حددتها "اللجنة التوجيهية للحوار الوطني"، بما في ذلك:
-الأمن والدفاع.
-المصالحة والتماسك الاجتماعي.
-السياسة والحكم الرشيد.
-الاقتصاد والتنمية المستدامة.
-الجغرافيا السياسية والبيئة الدولية.
مما لا شك فيه أن هذا الحوار يعد خطوة إيجابية ستنعكس آثارها خلال الفترة القادمة على فئة تمثل الغالبية من التركيبة السكانية للبلاد هي فئة الشباب والنساء، فقد شمل هذا الحوار الوطني مختلف فئات المجتمع المالي، وتتعدد فوائد المناقشات التي تمت أثناء الجلسات لقطاع الشباب كما يلي :
١- تعزيز المشاركة السياسية: يتيح الحوار الوطني الفرصة للشباب للمشاركة في العملية السياسية، والتعبير عن آرائهم ومقترحاتهم المختلفة. كما أنه يساهم في زيادة شعورهم بالمسؤولية تجاه وطنهم، ومن ثم يتولد لديهم الإيمان بقدرتهم على إحداث التغيير.
٢- بناء الثقة: يساعد الحوار الوطني على بناء الثقة بين مختلف مكونات المجتمع المالي بما في ذلك الشباب، وهذا ما يعزز التماسك المجتمعي والوحدة الوطنية.
٣- تقديم حلول مغايرة للقضايا الوطنية الشائكة: يتيح الحوار الوطني الفرصة للشباب لمناقشة المشاكل التي يواجهونها، على سبيل المثال، قضايا البطالة والفقر وانعدام الأمن، ومن خلال هذا الحوار، يمكن إيجاد حلول خلاقة وجديدة لهذه المشاكل تتوافق واحتياجات الشباب ورؤيتهم الطموحة.
٤- خلق قيادات جديدة وتمكين الشباب: يساعد الحوار الوطني على تمكين الشباب وبناء الكوادر السياسية الوطنية وتعزيز ثقافة الحوار وتقبل الآخر وذلك من خلال تطوير المهارات القيادية وزيادة الثقة بالنفس.
وبالرغم من الفوائد سالفة الذكر لا تزال هناك بعض التحديات التي تواجه قطاع الشباب في مالي، منها على سبيل المثال:
- نقص الوعي السياسي
- ضعف المشاركة في العملية السياسية
- ارتفاع معدلات البطالة والفقر.
بالإضافة إلى وجود عدد من التحديات التي تواجه الحوار الوطني وقد تؤثر على قدرته في تحقيق نتائجه المستهدفة أهمها:
- عدم مشاركة بعض الجماعات المسلحة في الحوار الوطني.
- انتشار الخطاب المتطرف.
- صعوبات إجراء جلسات الحوار في المناطق التي تشهد تدهور أمني.
- نقص الموارد المالية.
- مقاطعة عدد من قادة الأحزاب السياسية للحوار الوطني.
ولكن ينبغي أن نشير إلى أنه بالرغم من التحديات المذكورة أعلاه، يُعد الحوار الوطني فرصة مهمة لمعالجة الأزمات التي تواجه البلاد وتحقيق السلام والاستقرار. من أجل ذلك ولإنجاح هذا الحوار، من الضروري أن تلتزم جميع الأطراف المشاركة بما يلي:
-الحوار البناء، الذي يتقبل ثقافة الإختلاف .
-التنازلات المتبادلة، على التيارات السياسية المختلفة في مالي أن تتبنى منهجية (win-win) .
-وضع المصلحة الوطنية العليا فوق كل اعتبار.
وإلى جانب التوصيات السابقة حول سبل إنجاح الحوار الوطني، هناك محور هام ينبغي التركيز عليه ايضا، ألا وهو الإسراع بفتح قنوات للحوار مع دول المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الايكواس) ودول الجوار الإقليمي لدولة مالي، خاصة الجزائر وموريتانيا، وذلك لأن تحقيق السلام والاستقرار في مالي يتطلب جهودًا محلية وإقليمية مكثفة.
في الختام، يُعد الحوار الوطني في مالي خطوة مهمة نحو المصالحة الوطنية والسلام الشامل والاستقرار الدائم، ومن المهم استمراره وبذل المزيد من الجهود لتمكين الشباب وإدماجهم في الحياة السياسية والاجتماعية. مع الإشارة إلى انه لا يمكن تحقيق هذا الهدف إلا من خلال التعاون والتكاتف دون إقصاء أو إهمال لأي طرف من أطراف الشعب، مع الانتباه لتأثير العامل الخارجي لدول الجوار على العملية السياسية في الداخل، وهذا ما سنتناوله بمزيد من التفصيل في المقالات القادمة حول الحوار الوطني والاستقرار السياسي في جمهورية مالي.