فقد اعلنت بريطانيا عن دعمها للتعاون في الجانب الأمني والعسكري مع الحكومات الافريقية في حال طلب ذلك منها ولكن علينا هنا أن نطرح ما هي الفرص والتحديات. لا أحد ينكر أن بريطانيا لديها تاريخ طويل من الخبرة الاستعمارية في العديد من دول القارة مما مكنها من فهم لطبيعة التعامل مع معطيات المجتمعات الافريقية كما ان الإعلان عن ذلك التعاون في هذا التوقيت لم يأتي مصادفة . يشهد الجميع تصاعد مستوى الصراع داخل عدد من دول القارة الافريقية خاصة في إقليم غرب افريقيا، الذي يشهد انتشار للجماعات المتطرفة بالاضافة الى الانفلات الأمني وإعلان كثير من الدول عدم قدرة جيوشها الصمود أمام ما يقوم به هؤلاء المتطرفين من عمليات دموية أوقفت سبل الحياة والتنمية في مساحات من دولهم بدءا من نيجيريا صاحبة أكبر اقتصاد وعدد سكان في افريقيا مرورا بإقليم وسط افريقيا وانتهاءا بشرق افريقيا خاصة الصومال التي مازالت تواجه حرب شرسة من جماعة شباب المجاهدين.
يمكن تفسير ذلك من خلال سيناريو من اثنين الاول أن بريطانيا تريد التعاون العسكري الآن رغبة منها في عدم ترك الساحة أمام روسيا وقوات فاجنر والتي يرى كثير من المحللين أن فاجنر لا تتواجد للمساعدة العسكرية فقط بل انها تقوم بعقد صفقات تجارية تستغل من خلالها الثروات الافريقية الثمينة مقابل توفير الأمن وفرض سيطرة الانظمة الحاكمة مما مكن روسيا في وقت قصير من خلال قوات فاجنر الخاصة من تمدد سيطرتها ونفوذها في الداخل الافريقي ولعل ما يحدث من انقلابات متتالية منذ 2020 في إقليم غرب افريقيا كان اخرها ما حدث الشهر الماضي في النيجر يعد نجاح للسياسة الروسية وإعلان تراجع للسياسة الغربية المتبعة في افريقيا وبالتالي تريد بريطانيا تصحيح المسار وتوفير حاجة القادة والشعوب الافريقية للأمن والامان في مجتمعات عانت ومازالت من غياب الاستقرار بسبب النزاعات المسلحة التي ما لبثت ان هدأت حتى ظهر الارهاب بدمويته الذي يعيق التنمية والاستقرار.
وهنا ينبغي الاشارة إلى أن بريطانيا قامت بالفعل بعدد من المهام في بعض الدول الافريقية من خلال القوات الخاصة البريطانية. فقد كشف تقرير جديد صدر في مايو 2023 عن مؤسسة أبحاث "العمل بشأن العنف المسلح" (Action on Armed Violence) ، أنه منذ عام 2011، تم نشر القوات الخاصة البريطانية عملياً في 19 دولة على الأقل في العقد الماضي منها دول أفريقية هي الجزائر وكينيا وليبيا ونيجيريا والصومال والسودان. هناك ايضا ستة مواقع أخرى قامت فيها القوات البريطانية بتدريب قوات أجنبية أو تمركزت فيها قبل الانطلاق إلى دولة أخرى، منها بوركينا فاسو وجيبوتي [2].
ايضا وقعت كينيا والمملكة المتحدة اتفاقية تعاون دفاعي جديدة مدتها خمس سنوات لمواجهة التهديدات المشتركة عبر شرق إفريقيا، منها تهديدات الجماعات الارهابية، في يوليو 2021 أثناء زيارة الرئيس الكيني كينياتا للملكة المتحدة لتضيف بذلك مزيد من التعاون العسكري الممتد منذ سنوات بين الدولتين [3]. كما قدم الجيش البريطاني تدريبات لجيوش 22 دولة افريقية [4].
جدير بالذكر أن قوات الأمن البريطانية الخاصة، التي تتكون من عدد من الوحدات منها وحدات طيران خاصة (Special Air Service (SAS))، وحدات قوارب خاصة (Special Boat Service (SBS))، تتمتع بوضع خاص عن بقية الجيش البريطاني، فهي مسؤولة فقط أمام وزير الدفاع ورئيس الوزراء ولا توجد رقابة برلمانية على طبيعة عملها أو المهام التي تقوم بها، كما هو الحال بالنسبة لجهاز (MI6) عبر لجنة الاستخبارات والأمن (ISC). وقد تم مؤخرا وتحديدا في أغسطس 2023 خضوع بعض عناصر تلك القوات للتحقيق السري بسبب توجيه اتهامات لها تتعلق بارتكاب جرائم الحرب في عدد من الدول التي ذهبت اليها وشاركت في عمليات عسكرية بها أثناء عملها في تلك الدول، بما في ذلك الاغتيالات، والقتال إلى جانب الجنود الأطفال، وحوادث النيران الصديقة [5].
السيناريو الآخر أنه تم الإعلان عن توفير الخدمات الأمنية من قبل الجيش البريطاني ليس لأن يكون بديلا لفاجنر ولكن كي تؤمن بريطانيا مصالحها الاقتصادية ومصالح شركاتها واسثماراتها التي اعلنت عن تنفيذها سواء في القمم البريطانية الافريقية او على المستوى الثنائي والمزمع تنفيذها الفترة المقبلة والملاحظ أن غالبيتها يتعلق بقطاع الطاقة حيث تواجه غالبية الدول الاوروبية أزمة منذ الحرب الروسية الاوكرانية في تأمين مصادر طاقة مستدامة ويبدو أن افريقيا هي أمل العالم الجديد سواء فيما يتعلق بالطاقة الاحفورية أو الطاقة المتجددة. وهنا مكمن الخطورة لأنه بالعودة للتاريخ نجد أن احتلال افريقيا الذي عانت منه على مدار مئآت السنوات كان بسبب التنافس التجاري بين شركات وتجار امبراطوريات وممالك كانت تحكم العالم آنذاك وبدأ التدخل العسكري لحماية مصالح تلك الشركات ولعل شركة الهند الشرقية كانت أكبر دليل على ذلك وكيف أن القوات البريطانية كانت تدافع عن مصالح الشركات الانجليزية ضد شعوب المستعمرات أصحاب الأرض والثروة. ويكون التنافس بين جيوش ومخابرات العالم على الأرض الافريقية ويدفع ثمنه المواطن الافريقي الذي يأمل في التنمية والنهوض بمجتمعه.
في النهاية لا يمكن القول أن هذا التعاون سيكون منافسا قويا لقوات فاجنر الخاصة المرتبطة بالكريملين الروسي على الأقل في التوقيت القريب ولعل هناك من المعطيات التي تفسر ذلك الأمر الأول وفقا لموقع "جلوبال فاير بور" " Global Firepower " الأمريكي يصنف الجيش البريطاني في 2023 في المرتبة الخامسة عالميا، بينما يصنف الجيش الروسي، الداعم لقوات فاجنر بالعتاد والسلاح، في المرتبة الثانية [6]. كما أن تعامل فاجنر في افريقيا وغيرها من المناطق غير ملتزم بالقانون الدولي والمعاهدات الدولية لحقوق الانسان وعليه تتعامل مع الجماعات المتمردة والمسلحة بحرية أكبر في استخدام ما تراه مناسبا لإداء مهامها بينما الجيش البريطاني جيش نظامي سيكون عليه الالتزام بقواعد القانون الدولي والانساني. بالاضافة إلى ذلك يظل الإرث الاستعماري تجاه بريطانيا وفرنسا حاجزا داخل نفوس الكثير من الشعوب الافريقية للتعاون العسكري وإن كان أخف حدة تجاه الاولى نظرا لأن الاحتلال الانجليزي كان غير مباشر حيث يترسخ في عقل وذهن كل افريقي أن الدول الاستعمارية ومنها بريطانيا تتحمل جزء كبير من أسباب تخلف دولهم وتأخرها بسبب استغلال ثروات بلادهم.
استطاعت روسيا ايضا خلال السنوات الماضية أن تعوض النقص في توريد السلاح للدول الافريقية التي عانت من قرارات دولية متعلقة بمنع تصدير السلاح اليها مثل جمهورية افريقيا الوسطى من خلال فاجنر في العام 2017 . وفقًا لتقارير معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام ، فإن الروس هم المورد الرئيسي للأسلحة في القارة الأفريقية بين عامي 2015 و 2019 ، فقد استوردت إفريقيا 49٪ من معداتها العسكرية من روسيا، كانت الجزائر أكبر المستوردين. كما شكلت الدول الأفريقية 17٪ من صادرات الأسلحة الروسية في السنوات 2015-2019 [7]. ليس هذا فحسب بل تخطت موسكو بكين لتصبح بائع السلاح الأول في إفريقيا جنوب الصحراء في الفترة من 2018 إلى 2022 ، بحصة سوقية بلغت 26٪، وفقًا لتقرير نشر في منتصف مارس 2023 من قبل معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. وبالتالي يخلق هذا نوع من الارتباط بين روسيا وافريقيا في الجانب العسكري مما يجعل فرص بريطانيا أقل أمام المنافسة الروسية سواء على مستوى الجيش الوطني أو الشركات الخاصة [8].
لذلك قد يكون مرحبا بالتعاون العسكري مع الجانب البريطاني في الدول المتواجدة في إقليم الجنوب الافريقي وإقليم شرق افريقيا بينما لن يكون مرحبا به في إقليم الشمال والوسط خاصة إقليم غرب افريقيا الذي يشهد تنامي للرغبة الشديدة في اللجوء الى الجانب الروسي من اجل مزيد من التعاون.
المصادر: