جهود الأزهر الشريف في تطوير التعليم الشامل وتنمية المواهب والقدرات

فضيلة الاستاذ الدكتور/ سلامة جمعة داود 02 أغسطس 2024

رئيس جامعة الأزهر الشريف

جهود الأزهر الشريف في تطوير التعليم الشامل وتنمية المواهب والقدرات

فضيلة الأستاذ الدكتور/ سلامة جمعة علي داود"[1]"

                       رئيس جامعة الأزهر الشريف

يطيب لي في البداية أن أحمل لحضراتكم تحياتِ سبعةَ عَشَرَ ألفِ عُضْوِّ هيئةِ تدريسٍ بجامعة الأزهر ، وأكثرَ من نصف مليون طالبٍ مصريٍّ يَدْرُسُونَ في ثلاث وتسعين كليةً وثمانيةَ عَشَرَ معهدًا ملحقا بها في جميع محافظات مصر ، وتحياتِ أربعينَ ألفِ طالبٍ وافدٍ يَدْرُسُونَ في جامعة الأزهر ينتمون لنحو مائة وثلاثين دولةً من دول العالم، أنقل إليكم تحيات الجامع الأزهر الشريف الذي يَسْنِدُ ظَهْرَهُ لنحو ألفٍ وثلاثةٍ وثمانين عامًا مَضَتْ مِن عُمْرِ الزمان ، ولو نَطَقَتْ جُدْرانُه لأَسْمَعَتْكَ أصواتَ العلم والعلماء ، لأسمعتكَ صوتَ العز بن عبد السلام سلطانِ العلماء وبائعِ الأمراء الذي كان مجلس فِقْهِهِ يُوصَفُ بأنه أَبْهَى مَجْلِسِ فقهٍ في الدنيا ، ولأسمعتك جدرانُه لو نَطَقَتْ صَوتَ : ابنِ خَلِّكان صاحبِ وَفَيَاتِ الأَعْيَانِ ، وصوتَ ابنِ خَلدونِ التونسيِّ وتقيِّ الدين الفاسيِّ المغربيِّ والزواويِّ المالكيِّ والزيلعيِّ الحبشيِّ وزينِ الدينِ العراقيِّ وابنِ هشامٍ المصري الذي قالوا عنه إنه أَنْحَى مِن سِيْبَوَيه " ، ولأسمعتك جدرانُه المَقْرِيزِيَّ في خططه ، والحافظَ السخاويَّ والحافظَ جلالَ الدينِ السُّيُوطِيَّ الذي أَلَّفَ أكثرَ من خَمْسِمائة مؤلَّف ، وصوتَ شيخِ الإسلام زكريا الأنصاري، وهذا قٌلٌّ من كُثْر وغيض ٌ من فيض.

نتحدث اليوم عن البحث العلمي الذي لا سبيل لرقيه وتقدمه ونهضته إلا سبيلٌ واحدٌ هو أن يُنْتِجَ المعرفةَ ويُضيفَ إليها ولا يَعيشَ على مَضْغِ ما تُنْتِجُهُ العقولُ الأخرى ، بل تكونُ له مشاركةٌ فاعلةٌ وإضافاتٌ خلاقةٌ في كل فن من فنون المعرفة ، نتحدث عن العلماء الذين لكلٍّ منهم فضلٌ من نورِ عقله ، لا مع العقول التي تموت المعرفةُ فيها وتكونُ لها كالمقابر ؛ ولذا قال علماؤنا : " إذا رأيتَ الكاتبَ ليس له فضلٌ من نور عَقْلِهِ فاتْرُكْهُ " ، وإذا خَرَجْنَا من هذه الندوة بهذه التوصيةِ المهةِ وهي : ( ضرورةُ إنتاج المعرفة ، وحثُّ الباحثين والدارسين على أن ينتجوا المعرفة لا أن يستوردوها ويعيشوا عالة على عقول الآخرين ، يتسولون منهم المعرفة)؛ أقول : إذا خَرَجْنَا بهذه التوصية فقد خَرَجْنا بالقَوْلِ الفَصْلِ الذي هو رأسُ الأمرِ وذِرْوَةُ سَنَامِه .

 ينبغي أن تكون عيونُنا مَعْقُودةً في تربية أجيالنا على أن يكونوا أفضلَ منا ؛ فقد قال أحدُ أعضاء هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف :

" إذا خَرَّجْنَا جِيلا أقلَّ من مُستوانا فقد حَكَمْنَا على الزَّمَنِ بالتَّخَلُّفِ ،

وإذا خَرَّجْنَا جِيلا في مستوانا فقد حَكَمْنَا على الزَّمَنِ بالتوقُّفِ ؛

فلا مَفَرَّ مِن أنْ نُخَرِّجَ جِيلا أفضلَ مِن مُستوانا "

 واسمحوا لي أن أنقِل لحضراتكم تجربةَ الأزهرِ الشريفِ جامعًا وجامعةً ، فإنه لم يقتصر على العلوم العربية والشرعية فقط – مع أن له فيها الريادةَ التي لا تُنْكَر – بل جمع بينها وبين العلوم العملية من الطب والصيدلة والهندسة والعلوم والزراعة والتجارة وغيرِها ؛ فكان ممن تولى مشيخةَ الأزهر الشيخُ الدمنهوريُّ الذي بيننا وبينه الآن ما يقرب من ثلاثة قرون من عمر الزمن ، هذا الشيخ الجليل أَلَّفَ في العلوم العربية والشرعية ، وألَّفَ أيضا في الطب والجيولوجيا ، فله رسالة في علم التشريح في الطب ، وله رسالة عن طرق استنباط المعادن من باطن الأرض في علم الجيولوجيا .

ينبغي أن نهضم تراثنا الإسلامي هضما جيدا ، وندرسه دراسة متأنية مستوعبة ؛ حتى لا ننقطع عن جذورنا المعرفية ، وعن تراثنا الذي خَرَّجَ أجيالا من العلماء ، وهو صالحٌ لأن يُخَرِّجَ أجيالا أُخْرَى في كل عصر ؛ ولذا ينبغي المحافظةُ عليه لأنه هو النَّبْعُ العَذْبُ الذي تَسْتَقِي منه الأجيال ، وأن نقول كما قال الإمام عبد القاهر الجُرْجَانِيّ : "إن لم يكن هذا كَدِّي ، فهو تَعَبُ أَبِي وجَدِّي " ، ومما حَفِظْنا من كلام علمائنا قولُهم : " مَن حُرِمَ الأُصُول مُنِعَ الوصول " ، نَعَمْ ، ينبغي المحافظةُ على تدريس كتب التراث وقراءتِها في قاعات المحاضرات وفي أروقةِ الأقسام العلمية وفي المساجدِ والمحافلِ ، حتى نقضي على القطيعة المعرفية بيننا وبين ماضينا ، ومن تجربتي في جامعة الأزهر أنْ تَقْرَأَ الأقسامُ العلميةُ بجميع أعضائها كتابًا أصيلا من كتب التراث في التخصص؛ حتى يُسْمَعَ للعلم في أقسامنا العلميةِ وكلياتِنا وجامعاتِنا دَوِيُّ كدَوِيِّ النَّحْلِ ، ومن تجربة جامعة الأزهر في زماننا التي تثبت أنها تقوم بتطوير مناهجها بما يتواكب مع متطلبات العصر ومن صور ذلك أن الجامعة حين قررت مادة الفقه الإسلامي على طلاب كليات الطب – وفي الجامعة سِتُ كلياتٍ للطب – طبعت الفقه بطابع الطب ، فخرج فقه جديد بطعم الطب ، يعالج القضايا المهمة التي يتعرض لها الطبيب من مثل زرع الأعضاء والموت الدماغي والحَقْنِ المَجْهَرِيِّ وأطفالِ الأنابيب وتخصيبِ البويضات والتبرع بالأعضاء إلى آخره ، وحين قررت الجامعةُ مادة الفقه الإسلامي على كليات التجارة طبعت الفقه بطابع التجارة ، فخرج فقه جديد بطعم التجارة ، يعالج القضايا المهمة التي يتعرض لها خريجُ كلية التجارة من حُكْمِ التعامل مع البنوك وشهادات الاستثمار والتمويل العقاري والمضاربة والبورصة إلى آخره ؛ ولذا فالأزهر اليوم لا يعيش على التغني بأمجاد الماضي ، بل يضيف إليه جديدا كل يوم ، دعني أحدثْك عن ( مرصد الأزهر ) الذي أنشىء في عهد الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب ليرصد الفكرَ المتطرفَ الهَدَّامَ في جميع أنحاء العالم ويَرُدَّ عليه بأكثرَ من أربعَ عَشَرَةَ لغةً عالمية ، دعني أحدثْك عن الرواق الأزهري الذي انتشر في جميع محافظات مصر وهو تعليم غير نظامي يقوم على تحفيظ القرآن الكريم للصغار والكبار وتدريس العلوم العربية والشرعية ، دعني أحدثْك عن أكثر من 42 عالما في جامعة الأزهر هم في قائمة استانفورد لأفضل 2% من علماء العالم ، أحدثكم عن جامعة كان ترتيبها بين الجامعات المصرية منذ عامين رقم 14 ، وكان ترتيبها العام الماضي رقم 7 ، وترتيبها هذا العام رقم 1 على جميع الجامعات المصرية الحكومية . وهذا تصنيف التايمز الدولية للجامعات المصرية هذا العام . وحصلت 60 كلية وبرنامج على شهادة ضمان الجودة والاعتماد ، وستشرق الشمس قريبا على هذه الجامعة أم الجامعات وهي جامعة معتمدة .

  وعملت الجامعة على تفعيل الأنشطة الفنية والإبداعية لتنمية مواهب الطلاب وإزكاء روح التنافس المحمود بينهم ، وحصلت الجامعة على المركز الأول في مساببقة إبداع التي تنظمها وزارة الشباب والرياضة على مستوى الجمهورية ، وكان تفوق طلابنا في عدة مجالات أذكر منها الإنشاد الديني والفنون الشعبية والمراسل التليفزيوني والرسم ، وخصص الأزهر مركزا للإبداع والابتكار بمشيخة الأزهر ، مهمته اكتشاف المبدعين وتنمية مواهبهم ، وفي مركز تعليم الطلاب الوافدين أكاديمية مواهب وقدرات وفيها يتم التنافس بين الطلاب والطالبات في جميع الفنون كالرسم والإنشاد والشعر والخط العربي والمسرح والإلقاء والفنون اليدوية ، ومسابقة عالمية للكاريكاتير ، وهذا يؤكد اهتمام الأزهر ودعمه للمواهب والقدرات .

 إن الأزهر الشريف يمضي مع الزمان يقهر الجهل والظلم وتتحطم على جدرانه أطماع الحاقدين والحاسدين والمرجفين ، ويقيض له الله جل جلاله في كل عصر من يقوم بشرف خدمته والنهوض به ، من شيوخه العظماء وأئمته الأعلام وأعلامه النبلاء، وختاما أدعو لكم جميعا بالتوفيق.



[1] ألقيت هذه الكلمة في ندوة بمكتبة القاهرة بدعوة كريمة من المركز الإفريقي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية (أكريس) يوم الأحد غرة شعبان 1445 هـ 11 فبراير 2024 م .